العمل الخيري في غزة- تحديات الاستهداف، التنسيق، وعدالة التوزيع

المؤلف: محمد يوسف حسنة10.22.2025
العمل الخيري في غزة- تحديات الاستهداف، التنسيق، وعدالة التوزيع

منذ فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول، شهدنا حراكًا خيريًا واسع النطاق، تجسد في تضافر جهود المؤسسات، والمنظمات التطوعية، والفعاليات الاجتماعية المبهجة، والفرق الشبابية المفعمة بالحيوية؛ وذلك بهدف الاستجابة المثلى لمعاناة النازحين والمتضررين، وتسخير كافة الوسائل المتاحة للتخفيف عنهم. وعلى الرغم من التحديات الجسام التي فرضها إغلاق المعابر وقطع الطرقات الحيوية، استطاعت الكوادر الإنسانية الباسلة أن تنجح في إنشاء مخيمات إيواء مجهزة تجهيزا كاملا ومرافقها الخدمية الضرورية، وترميم بعض المستشفيات المتضررة، وتقديم الدعم اللازم لكوادرها الصحية المنهكة، ومساندة البلديات في مهامها الصعبة، وتقديم المساعدات المنقذة للحياة للأهالي الصامدين، سواء من خلال السوق المحلي المحدود الموارد، أو عبر قوافل المساعدات الإغاثية المباركة القادمة عبر الحدود من مصر والأردن.

إن هذا الزخم الهائل للعمل الخيري، ودوره المحوري في إسناد النازحين، جعله للأسف الشديد في مرمى الاستهداف الإسرائيلي الغاشم، ونتيجة لذلك، فقد ارتقى حتى الآن عشرات الشهداء الأبرار من الكوادر الإنسانية النبيلة، أثناء تأديتهم لواجبهم الإنساني المقدس تجاه الشعب الفلسطيني الصامد في غزة.

اقرأ أيضا

list of 2 items
list 1 of 2

كيف أصبح العدس الدرع الأخيرة ضد المجاعة في تكايا دارفور؟

list 2 of 2

الأونروا: لا يمكن استمرار قتل الفلسطينيين أثناء محاولتهم جلب الطعام

end of list

ويضاف إلى ذلك، كل المحاولات الدنيئة الرامية إلى محاصرة مصادر التمويل الخارجية، وتشويه سمعة كل من يقدم الدعم والإسناد لغزة، من خلال إلصاق تهم الإرهاب الباطلة به. وقد وصل الأمر إلى حد إغلاق جمعيات ومؤسسات خيرية، وتجميد حساباتها البنكية، ومداهمة البيوت الآمنة، وتنفيذ اعتقالات تعسفية في دول أوروبية عديدة. ولا ننسى الزيارات المكوكية المتكررة لمسؤولي FBI والخزانة الأميركية لبعض الدول الإسلامية، لحثّها والطلب منها تشديد القيود الخانقة على المؤسسات العاملة لصالح غزة، وتعطيل تحويلاتها البنكية المشروعة، والتدقيق في أية حوالة مالية مرتبطة بأعمال الإغاثة داخل القطاع المحاصر.

وبات من الواضح أن الإسرائيلي يدرك اليوم تمام الإدراك حجم وأهمية العمل الخيري في التخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني، ويضع استهدافه في مقدّمة الأولويات الخبيثة، فيما يجتهد العاملون في هذا المجال جاهدين – على الرغم من كل المخاطر المحدقة – في تقديم المساعدة وتذليل الصّعاب، ومنها شحّ المواد الأساسية، وندرة السيولة النقدية في قطاع غزة، والمخاطرة العالية التي تصاحب تأدية العمل الميدانيّ في ظل الظروف الراهنة.

هذا الجهد المضني الكبير المبذول يوازيه احتياجٌ متزايد وجسامة الحصار وإغلاق المعابر، وتحديات جمّة تعيق الوصول لكافة الفئات المستهدفة، ونتيجة لذلك، فقد تنشأ في نفوس بعض الناس شكوك حول عدالة التوزيع، وتنشب شبهات بالمحاباة والمحسوبية، إلا أن الغالبية العظمى من العاملين في هذا المجال هم على قدر عال من المسؤولية والأمانة، ويبذلون قصارى جهدهم لتقديم المساعدة لمن يستحقها، ولديهم نظم مالية ومحاسبية متينة للمتابعة والرقابة الدقيقة.

ولأنّ العمل الخيري بطبيعته يقوم به بشر، فهو لا يخلو من الاجتهادات الخاطئة، ومن محاولات الاستغلال من قبل ضعاف النفوس، لكن مجتمعاتنا الإسلامية قد ابتليت بداء القيل والقال، والتركيز على السلبيات وتجاهل الإيجابيات، وإغفال الحَسن من الأعمال وإظهار السيئ منها، لذا فإنه يجب التوقف مليًا عند المحطات التالية لوضع الأمور في نصابها الصحيح، بعيدًا عن التشنّج والعصبية، والدفاع المطلق أو الهجوم المعمم على الجميع.

أولًا: النشطاء وجمع التبرعات

إن طبيعة أي صراع تجعل من بعض الأشخاص رموزًا وأبطالًا ومحل اهتمام وثقة الجمهور، وتقوم وسائل التواصل الاجتماعي بدور كبير في تعزيز مكانتهم وتأثيرهم، وتسليط الضوء عليهم، وتبدأ تلك الشخصيات التي تم ترميزها بالتحول تدريجيًا عن الأعمال النبيلة التي صنعت مجدهم الرقمي، وينتقلون لمربّعات أخرى، والقيام بأعمال والإدلاء بتصريحات تضعهم في خانة المستفيد والمستغل لما وصل إليه من نجومية وشهرة واسعة، فمنهم من يُنصب نفسه حاكمًا وموجهًا للجمهور، ويشكك في أعمال المؤسسات والأطر الرسميّة، ويدعو للتبرع من خلاله باعتباره الوحيد المؤتمن والحريص على مصالح المحتاجين.

ومنهم من يخوض في أعمال الإغاثة الإنسانية وكأن الساحة من قبله كانت قاحلة، وهو وحده من قام بسد الثغر الكبير، ثم يقوم بتنفيذ المشروعات بعشوائية ارتجالية دون تنسيق مسبق ودون مرجعية معتمدة، مما يُوقع معظمهم في دائرة القيل والقال والانتقادات اللاذعة، وهذا الوضع يتحمل وزره المانح بشكل أساس، خصوصًا المؤسسات الكبيرة التي تدعم الأفراد على حساب المؤسسات الراسخة؛ طمعًا في الوصول السريع والجماهيرية الواسعة والتغطية الإعلامية المبهرة.

وهناك من يعتقد واهمًا بأنه إن مرّ عبر الأفراد فذلك يعفيه من الاستقطاع الإداري وعمولات التحويل المالية! وهنا لستُ أدري كيف لشاب حديث العهد بأعمال الإغاثة فرض حضوره الطاغي بشهرة إعلامية، أن يقوم بتغطية المصاريف الإدارية وعمولات التحويل البنكية من جيبه الخاص، فيما تعجز عنه مؤسسات كُبرى ذات باع طويل في هذا المجال؟، وكيف له أن يقدم أسعارًا منافِسة بشكل غير منطقي، كأن يقدم سعر أضحية الخروف بـ 600 دولار، فيما كان أقل خروف يبلغ سعره 1200 دولار على الأقل؟! فهذا يحتاج لوقفة جادة ومراجعة دقيقة من قبل المانح والمؤثر ومرجعيات العمل الإنساني في قطاع غزة.

ثانيًا: المؤسسات الخيرية

إن المؤسسات الخيرية تجتهد بكل ما أوتيت من قوة لجمع التبرعات وتحمّل الصعاب الجمة من أجل تنفيذ المشروعات الإنسانية، ومازال معظمها على قدر كبير من المسؤولية والإخلاص، وهي الأنسب لتقديم المساعدات للمستحقين، حيث يحكمها نظام داخلي صارم ولوائح وقوانين واضحة ومسار عمل محدد، وإن اضطرب هذا المسار في بعض الأحيان، فهو سرعان ما يُعيد فرض نفسه ويعزز الرقابة الجماعية، ولا يجعلها خاضعة لرغبة شخصية أو لشخص متفرد برأيه، إلا أن بعض المؤسسات تتناسى وظيفتها الحيوية والأساسية المتعلقة بتقديم المساعدة للمحتاجين، وتنحاز إلى المنافسة غير المهنية وغير الشريفة؛ طمعًا في الحصول على تمويل إضافي وزيادة الأرباح.

إذ اعترى العديد من الأعمال منافسات حادة لا تليق بالرسالة السامية التي يقدمها العمل الخيري، وقد أثّرت المنافسة المحمومة بشكل سلبي على المستفيدين من الخدمات الإغاثية، فبات السباق المحموم على الصورة الجذابة أولى من تقديم المساعدة الحقيقية، وبات أقل الأسعار مقدمًا على الجودة والنوعية، فأهانت الأولى كرامة شعب يقاوم ببسالة، والثانية قدّمت ما لا يليق بشعب قدّم أغلى التضحيات وما زال يقدمها بسخاء.

والإشكال الأكبر الذي يعتري المؤسسات هو عدم التنسيق الميداني الفعال، فكل منها تعمل بمعزل عن الأخرى، وتحاول أن تبتعد عن أي دائرة أو مبادرة تهدف إلى تنسيق وتوحيد الجهود، وتوزيع مركز الثقل المؤسسي بشكل عادل، بما يحقق عدالة التوزيع ويضمن وصول المساعدات إلى مستحقيها، ولا أجد مبررًا لذلك سوى أمرَين لا ثالث لهما: إما أن التدخلات هزيلة وضعيفة، ولا ترقى لمستوى المُعلن عنه من قِبل بعض المؤسّسات، وإما أن هناك خللًا كبيرًا يُخشى فضحُه إن تم التنسيق والمطابقة، وفي الحالتين وجبت المحاسبة والمساءلة الصارمة.

ثالثًا: حملات التشكيك والإنكار

إن لحملات التشكيك والإنكار أسبابًا عديدة وجِهات مختلفة، فهناك من لم تصله المساعدات إلا ما ندر أو تعرض لظلم بين، نتيجة خلل في عدالة التوزيع، فأصبح الجميع لديه محل اتهام دائم، خصوصًا القائمين على تسلّم المساعدات وتوزيعها، وهو لا يرى ولا يستطيع تقبل الصورة الكبرى المتمثلة بالاحتياج الكبير والمتزايد والذي تعجز عن تلبيته كل المساعدات مجتمعة، إلا أن القليل المتوفر يجب أن يوزّع بعدل وإنصاف قدر المستطاع.

ومن أسباب التشكيك أيضًا ظهور بعض حالات الخلل والتقصير لدى بعض المبادرين والمُبادِرات، وبعض المؤسسات في تنفيذ المشروعات الإنسانية، واستقطاب الأموال الطائلة، وجمعها دون أن يكون التنفيذ واقعيًا على الأرض، أو يُماثل حجم عمليات الجمع الهائلة، بالإضافة لارتفاع مصاريف السفر الباهظة لبعضهم؛ بغرض استقطاب الدعم المالي، ودفع مبالغ كبيرة للتنسيق والتسويق من مبالغ التبرُّعات المخصصة للمحتاجين.

التضارب بين المؤسسات والمؤثرين

حقيقة أرى أن المؤثرين والمتطوعين يجب أن يكون عملهم محكومًا ضمن إطار مؤسسي واضح المعالم يعزز الشفافية والمساءلة، ويجب ألا يترك الأمر للأهواء والنزعات الشخصية والتفرُّد في توجيه التبرعات وتحديد الأولويات. كما أنه من الضروري انخراط كل المؤسّسات العاملة في قطاع غزة في تنسيق جادّ ومُوحد؛ لضمان عدالة التوزيع وعدم الازدواجية والتكرار، وتوحيد الأسعار ومنع المضاربة الجشعة، فالعمل الإنساني في المحصلة النهائية هو تقديم خدمة جليلة للمحتاجين بغض النظر عن مقدمها، وليس مجالًا تجاريًا ومناقصات تبحث عن السعر الأقل وتهدف إلى إرضاء العميل على حساب الجودة.

الذباب الإلكتروني والاستهداف المُوجّه

لا شك أن الذباب الإلكتروني يعدّ أخطر أنواع حملات التشكيك الممنهجة، ويمثل المنخرطون فيها النسبةَ الكبرى، ولعلّ حملات التشكيك الموجّه تُعتبر الأخطر على الإطلاق، فهي لا تأتي في سياق الحرص على المال العام، أو من باب الاهتمام بالمستفيدين، وإنما تنطلق من الخصومة السياسية البغيضة، ومحاولة الاصطفاف ضد غزة الصامدة.

وقد لعبت جهات فلسطينية للأسف دورًا محوريًا في التحريض على جمعيات إغاثية عاملة لفلسطين، فيما نشط البعض وبشكل موجّه للتشكيك بأي عمل إغاثي يتم في داخل القطاع المحاصر والتقليل من جدواه، بل إن قياديًا فلسطينيًا للأسف وجّه خطابًا مسمومًا يطلب فيه وقف التبرّعات ومنع الحوالات عن غزة، بدعوى أنها تُعزز مكانة فصيل بعينه، دون النظر لأي اعتبار له علاقة بالحاجة الإنسانيّة الماسة للمواطن الفلسطيني البسيط الذي يدفع ثمن العدوان الإسرائيلي المتواصل.

وفي الختام؛ يتبين لنا أن العمل الخيري الإنساني له دور كبير وهام في إسناد وتمكين الناس في قطاع غزة، ويجب أن يتكامل الدور المؤسّسي مع الجهود التطوعية والفردية؛ لتعزيز قدرة الوصول إلى جميع المحتاجين، ويجب أن يكون هناك تنسيق كامل وشامل بين المؤسّسات العاملة في هذا المجال، ومن لا يأتي طوعًا لهذا التنسيق يجب أن يأتي إليه مكرهًا، فواقع ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، يختلف تمامًا عما قبله، ولا يجوز قبول ادّعاء بعض المؤسّسات بأنها قدّمت وعملت بملايين الدولارات في قطاع غزة، فيما لا نرى أثرًا حقيقيًا وملموسًا لعملها على أرض الواقع، ويجب وقف حالة التضارب الكبير في أسعار المشروعات الإنسانية، وتقديم الأولويات التي تخدم حاجة الناس الحقيقية، لا إداريات المؤسّسات وموازناتها الضخمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة